أخبار ثورة أو طفرة أو انتفاضة شهر مايو الطلابية الفرنسية 1968، التي نعيش ونُحيي ذكراها الرابعة والخمسين هذه الأيام، صادفتني ووصلتني وأنا ما زلتُ أتابع دراستي العليا في القاهرة، كان لهذه الأحداث تأثير فوري وبليغ على الطلبة والمثقفين على اختلاف مشـاربهم، واتجاهاتهم، وانتماءاتهم الحزبية والسياسية والمذهبية، تتبعنا أخبارها عن كثب بواسطة وسائل الإعلام المصرية المسموعة والمرئية، وما كان يكتبه آنذاك عنها في أرض الكنانة كتّاب من قبيل محمود أمين العالم، وموسى صبري، ومحمد حسنين هيكل، وأنيس منصور، ولويس عوض وسواهم .
إنتفاضة طبعت الأجيال
وعلى الصعيد الجامعي عمد اتحاد طلاب جامعة عين شمس، على وجه الخصوص، التي كنت أنتمي إليها، إلى تنظيم وقفات حاشدة في ساحات وباحات هذه الجامعة الفسيحة تضامناً مع الطلبة الفرنسيين الذين فجّروا هذه الانتفاضة، ودعماً لمطالبهم المشروعة والعادلة، إلا أن هذه التجمعات سرعان ما انفضت وخبَا أوارُها بعد تدخل المسؤولين الجامعيين، مخافة أن يتحول مسارُها لمطالب وغايات أخرى، فنحن كنا لمّا نزلْ في عهد الرئيس المصري الراحل ذي الكاريزما الخاصة، الطيّب الذكر جمال عبد الناصر، كما أذكر أن اتحاد الطلبة المغاربة نظم في مقره إبّائذٍ الكائن في شارع بنك مصر رقم 6 تظاهرة طلابية كبرى شاركتُ فيها إلى جانب ثلة من الطلبة المغاربة الأصدقاء، والأعضاء في هذا الاتحاد، فضلاً عن بعض الضيوف من الأشقاء الجزائريين والتونسيين والفلسطينيين، ومن بلدان عربية أخرى، حيث التقينا – غداة هذه الانتفاضة – في عدة مناسبات، كما زارنا غير ما مرة، خلال هذه الفترة في مقر الاتحاد الشاعر والمناضل الفلسطيني المشمول برحمة الله معين بسيسو (أتذكر أنه كان يدخن بدون انقطاع)، كان الجميع يشعر بنوع من الإحباط والتذمر، مما سببته لنا نكسة 6 يونيو 1967، وقد شكلت هذه الانتفاضة الفرنسية – على الرغم من بعد المزار، والبُعد عن الديار- شكلت لنا فسحة أملٍ، وكانت ضرباً من الانفراج، وضخ الحياة في قلوبنا المكلومة، وأفئدتنا المهمومة، ونفسياتنا الحائرة المنهارة، إنها انتفاضة أو بالأحرى، وبمعنى أدق ثورة غيّرت حياة كل الأجيال ليس في بلاد الغال وما جاورها وحسب، بل على ما يظهر في مختلف مناطق، ومناحي ونواحي وبقاع وأصقاع المعمورة.
إضراب طلاّبي
وعُمّالي شامل
كان لهذه الانتفاضة تأثير بليغ على معظم الكتاب والمثقفين المغاربة وغير المغاربة، سواء كانوا داخل بلدانهم أو خارجها، كما كان لها تأثير واضح ـ كما هو معروف- على العديد من الكتاب والمفكرين التقدميين على وجه الخصوص في مختلف أنحاء العالم، وفي ما يتعلق بتجربتي الخاصة، فقد صادف أن زرتُ باريس قادماً إليها من القاهرة 1968 بُعيد الانتفاضة مباشرة، وكتبتُ مراسلات لجريدة «الطلاب» التي كانت تصدرعلى الصعيد الجامعي في مصر، حيث كنتُ أشرف على القسم الأدبي فيها، كما نشرتُ بعض المقالات، والقصص القصيرة من وحي هذه الانتفاضة، ومن وحي قضية فلسطين التي كانت تستأثر باهتمامنا، ومتغلغة في أعماق وجداننا وكياننا في جريدتيْ «العَلَم» و»المُحرر» المغربيتين (هذه الصحيفة الأخيرة أصبحت اليوم تحمل اسم الاتحاد الاشتراكي). كانت الشرارة الأولى لهذا الغليان الثوري طلابية بحتة، انطلقت في الثالث من مايو من جامعة نانتير في ضواحي باريس، ثم سرعان ما عمت السوربون وكلياتها، وتحولت في غضون أيام معدودات من طفرة تلقائية حاسمة (في اليوم الثالث عشر من مايو) إلى إضراب طلابي وعمالي شامل شلّ الحياة اليومية في باريس، وفي يوم السابع عشر من مايو، بدا الجنرال شارل ديغول (أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة) حائراً، مرتبكاً، متردداً بين الرضوخ أو التصدي لهذه الانتفاضة، وفي آخر المطاف أرغِم على حل الجمعية الوطنية، وإجراء انتخابات تشريعية. مرّ اليوم على هذه الانتفاضة أربعة وخمسون حوْلاً بعد أن انبثقت عفوية من زخم الشباب وصَخَبِه وتلقائيتِه، انطلقت ليس بهدف تغييرالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في فرنسا وحسب، بل في العالم، على ما كان يبدو لنا في ذلك الإبان.
استقطبت هذه الثورة مختلف الحركات والاتجاهات والتيارات، وساندها مثقفون ومفكرون من العيار الثقيل، حيث انضمّ إليها أكبرالكتّاب والفلاسفة والشعراء والفنانين، الذين كانوا يحظوْن بصيْتٍ واسع إبانئذٍ أمثال جان بول سارتر ورفيقته سيمون دي بوفوار، وبول ريكور، وميشيل فوكو، وجيل دولوز، وألان باديو، وناتالي ساروت، ومارغريت دُورَاس، وبوتور، ولوفيفر، وفرانسوا مُورياك، وأندريه مالرُو وسواهم، كلهم شكلوا جداراً حصيناً ضد السلطة المطلقة، وضد كل النماذج المذهبية التي كانت سائدة في ذلك الأوان، هذا المد الهائل من التظاهرات، والاحتجاجات أحدث تغييراً جذرياً عميقاً بين ما كان وما سيكون في الحياة الفرنسية، حول مختلف المفاهيم السياسية والحزبية والنقابية، التي كانت مُهيمنة في ذلك الوقت، والتي لم تعمل قط على تقريب الهوة التي أمست سحيقة وعميقة بين الأسياد (الرأسماليين) وطبقات البروليتاريا الكادحة، العَسيفة، المُستلبَة والمُستغَلة أسوأ استغلال.
قطب الرّحىَ
الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز كان قد تعرض في كتابه «الإنسان ذو البُعد الواحد» إلى الفئات الجديدة التي ستشكل قطب الرحى في هذا التغيير ضد الرأسمالية، وما أفضت إليه المجتمعات الصناعية من استلاب وإذعان للإنسان تحت وطأة الأنظمة المطلقة السائدة، رأسمالية كانت أم شيوعية، كان لأفكاره تأثير بليغ على الحركات الطلابية في أمريكا وأوروبا وفي فرنسا بشكلٍ خاص. فضلاً عن تأثيره في الفنون، والسينما والشعر والإبداع والرسم، والتصويرالفوتوغرافي التوثيقي، والجداريات، وسواها من مجالات الخلْق والإبداع، من بين الدواعي التي حدت بالطلبة الفرنسيين، ومَنْ معهم من الأجانب الذين ساندوهم للانتفاض، والانقضاض على المفاهيم السائدة آنذاك الحرب الجائرة التي كانت تدور رحاها في فيتنام بعد أن شنتها أمريكا ظلماً وعدواناً وإجحافاً عليها، بينما كان هوشي مينه، وماو تسي تونغ، يتغنيان بالثورة الثقافية التي وصلت أصداؤها إلى فرنسا، التي كانت تأخذ بألباب الطلبة، وتدغدغ عواطفهم، وتشحذ هِمَمَهم ضد الاتحاد السوفييتي وأمريكا على حد سواء، فضلاً عن اغتيال إرينستو تشي غيفارا (1967)، ومارتن لوثر كينغ (1968). وسواهما من رموز التحرر، وأرباب الفكر المستنير في مختلف أرجاء المعمورة بما فيه العالم العربي، وسرعان ما انضم إلى انتفاضة الطلبة الباريسيين، اتحادات العمّال الذين شاركوا بحماس في إضرابٍ عامٍ في الثالث عشر من مايو، وقفز عدد المُضربين تدريجياً من مئتي ألف إلى نحو المليون شخص، ثم تجاوزعددُهم مليوني عامل، وما لبث أن وصل إلى عدة ملايين الشئ اذي أبهر مختلف المراقبين والمتتبّعين لهذه الظاهرة الفريدة .
إعزفها ثانيةً يا سام!
والخلاصة لقد شكلت هذه الثورة أهمّ تحرّكٍ اجتماعي شامل في تاريخ فرنسا في القرن العشرين الفارط ، ولا يتسع المجال لسرد الكتب التي حاولت وتحاول تقديم قراءات أعمق، ومفاهيم أدق، ودراسات أشمل لتلك الأحداث التي كانت في البداية ذات طابع اجتماعي، وثقافي، وأخيراً سياسي لتصبح في ما بعد بمثابة متاريس منيعة، ومُزعجة في طريق الرأسمالية، والأمبريالية الأمريكية لتقويضهما، كما شكلت هذه الثورة سبقاً تاريخياً فريداً، ونصبت صُوىً، وقطائعَ فاصلة حيال الثقافة السائدة ومختلف أنماط العيش والتعايش التي كانت تطبع المجتمع الفرنسي في مجمل مؤسّساته التقليدية آنذاك، وعلى غرار العبارات التي ظلت راسخة في أذهان مَنْ شاهد واستمتع بفيلم «كازابلانكا» الشهير من قبيل: « ودائما تبقى لنا باريس»، أو «إعزفها ثانيةً يا سام»! فقد أمست بعض شعارات هذه الثورة أمثلة مشهورة، وأقوالاً سائرة مأثورة ما فتئت ترددها الألسن إلى اليوم من قبيل (كونوا واقعيين، أطلبوا المستحيل)، أو (المنع محظور)، وهناك مَنْ يحلو له اليوم المقارنة بين أحداث مايو فرنسا 1968، وأحداث الربيع العربي 2011 الذي شهد هو الآخر هزاتٍ، ورجاتٍ عنيفة، وهبّت خلاله توابع، وزوابع، وعواصف، وأعاصير صاخبة ما زلنا نسمع أصداءَها، وردودَ فعلها إلى يومنا هذا المشهود .
(*) كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا